كتاب عبد الحليم حافظ

أحمد سعيد محمدية

مذكرات وسير ذاتية

كتاب عبد الحليم حافظ بقلم أحمد سعيد محمدية..عبد الحليم حافظ... لماذا سيرته الآن ومن جديد؟ مع سؤال آخر: هل ابتعد عبد الحليم عن حياتنا حتى نتذكره ولكي نحث الناس على سماعه؟؟ عبد الحليم لم ينس، وسيرته من خلال صوته ما زالت في قلب الناس وستبقى، أنه جزء مهم من الأصالة الروحية لشعبه وأمته.. هذا الذي أنشد وغنى ورتل فأسعد وأشجن وأطرب وأفرح وأحزن وأنهض القلوب من رتابتها، وبعث الدفء في روح الذين أصابهم صقيع الحياة. إن قصة حياته تحكي هذا الصعود المحظوظ المجبول بالأمل والألم، وهي قصة الموهبة الذة -عطية الله ما- التي تم تدريبها وصقلها بالجهد الأكيد والمثابرة الطموحة والكفاح المرير، وبالثقافة الفنية والفكرية حتى نضجت وأعطت فوجها.



كان يقرأ بلا هوادة عندما أطل على الشباب، وأصبح الكتاب رفيقه الأثير، لذلك لم يك غريباً عليه عالم الكتب والكتاب عندما استقام عوده في حياة الموسيقى والطرب، فقد هذب روحه من قبل بالنغم، وعقله بالفكر... فقرأ كل كتاب مصر المهمين، ورغم حياة الليل التي كان -عادة- يحياها الفنانون- ما عدا عبد الوهاب وفيروز وقلة قليلة مثلهما -كان عبد الحليم يقضي لياليه في صحبة الكتّاب: مصطفى أمين وأحسان عبد القدوس وأمين شاكر وسعيد فريحة وعبد القادر حاتم، وغيرهم من الفنانين المبدعين شعراء ورسامين وروائيين ونقاد، وسياسيين نافذين، لا بل إنه هو شخصياً بدأ يتعاطى السياسة ويصعد في دروبها الملتوية، وبلغ به الأمر أن أصبح في دائرة النفوذ -وفي مراكز القوى الفاعلة في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر- وله تأثير كبير في دوائر المخابرات.

إن ما ينبغي تذكره وذكره عن عبد الحليم أكثر كثيراً مما قيل وسيقال.. فحياة مليئة بالفجيعة السوداء والحلم المضيء، بالصعود الشاهق والانحدار الساحق، بالجهد والجهاد... باليتم المذل والوحدة، وبالدفء في أحضان الملايين، بالفرح الغامر والقهر القاتل... حياة هذه شكلها -مليئة بالإيقاعات الصاخبة- تحتاج إلى ما يزيد على مجلد.. وإن كانت حياة قصيرة فالتفاصيل كثيرة، وهي تفاصيل ذات إيحاء وتشكل سمات هذه الموهبة، وسوف نذكر بعضها.

عندما اقتحم المرض كبد عبد الحليم، وتأكد أن داء البلهارسيا قد بدأ يفتك به، كان محبوه والأقربون منه يدركون ألا فكاك ولا خلاص من هذا المرض العصي، وأن أيام الرجل الجميل الروح، ذي الموهبة العظيمة، لن تكون أكثر طولاً من أيام العبقري الآخر- الذي اختطفه الموت في قمة شبابه -سيد درويش.

بعد سيد درويش، برزت أم كلثوم، وإلى جانبها كان محمد عبد الوهاب، لقد برز دور القصيدة العربية المغناة ولأول مرة تصبح للقصيدة العربية دورها، في الأغنية العربية، وفي الموسيقى العربية. لقد بدأ محمد عبد الوهاب يغني لأحمد شوقي... وبعده بأكثر من عشرين عاماً، بدأت أم كلثوم تلتقط بأذنها صوت الجماهير العربية، وبدأت هي الأخرى تغني القصائد.

في البدء كان محمد عبد الوهاب يغني "يا شراعا وراء دجلة يجري... في عيوني تجنبتك العوادي...". وبعد بعشرين عام، جاءت أم كلثوم لتغني ولأحمد شوقي نفسه: سلو قلبي، غداة سلاوتابا لعل على الجمال له عتابا...".

ولكن المفاجأة الكبرى كانت صوت عبد الحليم حافظ، وصوت المغني لا يبرز إلا في الأزمات الكبرى التي تواجهها أمة من الأمم.. فلقد بدأ عصر التحولات الاجتماعية الجديدة في مصر، بدأ عصر تأميم قناة السويس، وعصر الانتفاضة الوطنية الكبرى.

إن الذي كتب نشيد المارسلييز الفرنسي، لم يكن غير شاعر مجهول، ولكنه شاعر عرف كيف يربط مصيره، بجماهير الأمة الفرنسية، حتى أصبح نشيده، أو قصيدته، هو النشيد الوطني لأمة بأكملها. وهذا تماماً، ما فعله عبد الحليم حافظ، حينما بدأ مرحلة العزف على أوتار الكمنجة الوطنية، حينما بدأ العزف بأصابع يديه، على أمشاط البيانو الوطني، فكرس صوته وموسيقاه للوطن، لتأميم قناة السويس، ضد العدوان الثلاثي، ومن أجل السد العالي.

والجماهير التي كرهت المواويل الطويلة، اندفعت بشدة نحو القصيدة القصيرة، الجماهير التي أرادت الانتقال، من مرحلة (الناي)، إلى مرحلة (البيانو)، وجدت في عبد الحليم حافظ، ضالتها المنشودة، لقد تم الانتقال إذا، وهذه ليست غير قصة ذلك الانتقال، قصة ذلك الصوت العربي، الذي عرف كيف يجعل من الموسيقى ومن الكلمة، ذلك الخبز اليومي للناس، لكل الناس. وهذه هي قصة، قصة عبد الحليم حافظ، بلا ماكياج، وبلا باروكة... وبلا قفازات...

شارك الكتاب مع اصدقائك