كتاب قراءة جديدة لحروب الردة

علي الكوراني العاملي

العلوم الاسلامية

كتاب قراءة جديدة لحروب الردة بقلم علي الكوراني العاملي.. بسـم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام ، على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، لاسيما أولهم عليٍّ أمير المؤمنين ، بطل الإسلام ، وعضد رسول الله (ص) ، وقامع أعدائه ، ومفرج الكرب عن وجهه ، وفاتح الحصون ، وحافظ الإسلام وأمته من بعده ، وقائد الغر المحجلين الى جنات النعيم .

وبعد ، فقد كان علي (ع) العمود الفقري في معارك النبي (ص) وانتصاراته ، وعندما أبعدوه عن الخلافة واعتزل ، فرحت القبائل الطامعة في السلطة ، وقرر تحالفهم بقيادة المتنبئ طليحة احتلال عاصمة النبي (ص) ، فغزا المدينة بعشرين ألف مقاتل بعد وفاة النبي (ص) بستين يوماً !

هنا نهض علي (ع) وهو الأسد المجروح ، دفاعاً عن الإسلام وأهله ، وإن كان لايعترف بنظام الحكم ، فوضع خطة لدفع الهجوم ، ورتب حراسة المدينة ، وفاجأ المهاجمين ، فقتل قائدهم «حِبال» وغيره من قادتهم ، وردهم خائبين مهزومين . ثم طاردهم (ع) مع المسلمين الى معسكرهم في ذي القَصَّة (أي الجَصة) على بعد عشرين كيلو متراً عن المدينة ، وشجَّع أبا بكر لحرب المتنبئين ، وأولهم طليحة في حائل ، ثم مسيلمة في اليمامة ، وهي مدينة الرياض الفعلية .

قال (ع) في رسالته الى أهل مصر ، لما ولى عليهم مالك الأشتر:

« أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (ص) نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى (ص) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ولايخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته ، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد (ص) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه » . (نهج البلاغة:3/118، والغارات للثقفي:1/307، والامامة والسياسة:1/133 ، ومصادر أخرى).

وتعبير: ما كان يُلقى في روعي، تعبير مجازي للأمر الغريب المفاجئ . وتنهنه: سكن.
وأخذ أبو بكر يستشير الإمام (ع) في تدبير الحرب ضد القبائل الطامعة في دولة الإسلام ، فأرسل عليٌّ (ع) تلاميذه الفرسان ، وأولهم عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ، لتوعية القبائل ، ومقاومة طليحة .

ثم أرسل (ع) نخبة من أصحابه لحرب مسيلمة ، كعمار بن ياسر، وأبي دجانة ، وثابت بن قيس ، رضي الله عنهم ، فنهضوا في تلك الأحداث والمعارك ، وحققوا النصر للإسلام ، وهزموا المرتدين .

ثم استشاره أبو بكر في غزو الروم: «قال أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك ، أو بعثت إليهم ، نُصرت عليهم إن شاء الله . فقال: بشرك الله بخير ». (تاريخ دمشق:2/64).
وقد أثرت نهضة علي (ع) في نفس أبي بكر ، فكان يعتذر اليه عن تقدمه عليه في الخلافة ، ويؤكد له بأنه سيعيدها اليه بعد وفاته !

قال (ع) كما في الخصال للصدوق/343: « فإن القائم بعد النبي (ص) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره فيما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي، وسألني تحليله ، فكنت أقول: تنقضي أيامه ، ثم يرجع إليَّ حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً ، من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً ، في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل . وجماعةٌ من خواص أصحاب محمد (ص) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله (ص) ولكتابه ودينه ، يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلى بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي (ص) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل ، فقال كل قوم: منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر!
فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه ، صير الأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ».

وبعد وفاة أبي بكر كان عمر يشاور الإمام (ع) في الحرب ، فكان يدبر أمورها ، ويختار لها القادة والفرسان ، ويحقق النصر للمسلمين.

وعندما جمع الفرس جيشاً من مئة وخمسين ألف جندي لشن هجوم كاسح على المدينة ، بعث عمار بن ياسر وكان والي الكوفة ، رسالة الى عمر بن الخطاب يخبره ، فخاف عمر وأخذته الرعدة ، واستشار علياً (ع) ، فطمأنه وأعطاه الخطة ، واختار لها قائدين هما النعمان بن مقرن وحذيفة رضي الله عنهما ، فاستبشر عمر وشكره ، وأطلق يده في تدبير معركة نهاوند ، وهي أكبر معركة مع الفرس ، فحقق فيها النصر .
وكذلك في معركة اليرموك بعث علي (ع) مالك الأشتر، وعمرو بن معدي كرب، وهاشم المرقال ، ومجموعة أبطال ، فقطفوا النصر كما أخبر (ع) .

وكذلك في فتح مصر، فقد فتحت صلحاً بدون أي معركة ، وشارك في فتحها عدد من كبار الصحابة من تلاميذ علي (ع) كعبادة بن الصامت ، وأبي ذر الغفاري ، ومالك الأشتر ، والمقداد بن عمرو .
ثم عندما هاجم الروم مصر في زمن عثمان ، قاد تلميذا علي (ع) :محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة، معركة ذات الصواري في دفع هجوم الروم عنها

وقد نسبت السلطة هذه الفتوح لقادتها ، كخالد بن الوليد ، وعمرو العاص ، وأبي موسى الأشعري ، والخلفاء من ورائهم ، مع أن الفضل فيها نظرياً وميدانياً لعلي (ع) وتلاميذه وفرسانه .

لذلك كان علي (ع) يشكو قريشاً فيقول ، كما في شرح النهج:20/298:

« اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك (ص) ضروباً من الشر والغدر فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ...ولولا أن قريشاً جعلت إسمه (ص) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً !
ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ماكان مضطرباً ، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا !
ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خَمِل ذكرُه ، وخَبَتْ نارُه ، وانقطع صوته وصِيتُه ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لايعرف »!
يقول بذلك (ع) إنه هو الذي رد هجوم المرتدين عن المدينة ، ودفع الخليفة الى حروب الردة ، والى هذه الفتوح ، ودبر إدارتها ، وهيأ أبطالها ، لكن إعلام السلطة نسبها الى الخليفة ، ومن عيَّنهم من قادتها الرسميين .
ومن الواضح أن ذلك لايعني مسؤولية الإمام (ع) عن المظالم التي رافقت الفتوحات ، وصدرت من قادة وولاةٍ لم يعينهم .

لذلك كنا بحاجة الى بحث حروب الردة ، وبيان دور أمير المؤمنين (ع) فيها وهو مدخل لدراسة الفتوحات الإسلامية وبيان دوره (ع) وتلاميذه فيها.

وستجد في هذا البحث أن المحدثين أكثر إعمالاً لأهوائهم من المؤرخين ، وأن حروب الردة والفتوحات تحتاج الى قراءة جديدة ، لكشف واقعها .

كتبه: علي الكَوْراني العاملي
قم المشرفة في الثاني من جمادى الثانية 1432

 

شارك الكتاب مع اصدقائك